الرئيسية

جوهر الحضارة

سلسلة مقالات الحضارة (2)

ما جوهر الحضارة؟

وهل أي شيءٍ يقع في حضارةٍ ما من الحضارات يكون من عناصرها ومقوماتها التي ترتكز عليها؟

ما المحدد لهذا الأصل: أهو العقل الجمعي لأبناء تلك الحضارة، أم الانبلاجات الواقعية للنظريات المطروحة عنها؟

تلك أسئلة تلح علينا حين الخوض في باب الحضارة والكلام عن نظرياتها، وقد أشرتُ لأمرٍ مهم في مقالٍ سبق حين الحديث عن العنصر الأخلاقي، وأثر غيابه، ولك أن تعطي نفسك سانحة التفكر لتعود بالذاكرة في تاريخ الحضارات، وسألت نفسك: ما الذي يميز كل حضارةٍ عن أختها، وما الذي يجعل في النفس حاجةً تستدعي التمايز في الإدراك بين الحضارتين السومرية والفرعونية مثلاً؟

إنَّ الأمر المحرك للحضارات هو العنصر الثقافي، أو ما يسميه البعض: التحضر، والتحضر “يشكل جوهر الحضارة، وهو منظومةٌ من القيم التي تصيغ المواقف الأخلاقية والإنسانية التي يتخذها البشر تجاه أنفسهم والكون، لا تستطيع المجتمعات غير المتحضرة أن تؤسس حضارةً”[1]

إن هذا الجوهر المحرك للحضارات لطالما أسيء استخدامه في الكتابات الغربية ذات التوجهات الحداثية، الأمر الذي حدا بالمصطلح عن الإبانة إلى ضربٍ من الغموض في الدلالة مما يستدعي مهاماً من الباحثين ليستجلوه بعد انغلاق، وليسفروا عن بدره بعد طغيان سحب الوهم.

فإن القارئ للكتابات الغربية في العصر الحديث يجدهم حصروا التحضر في ميادين ثلاثة، هي: العلم، والتكنولوجيا، والصناعة، فصار هذا الثالوث معيار تقدم المجتمعات، ومقياس التحضر الذي يفرض على الجميع، ونظراً لظروف الحربين العالميتين وتنافس الدول الحديثة في قيادة العالم، وأثر التقدم في هذه الميادين الثلاثة على إدارة دفة الحرب، أصبح لهذا المعيار الناقص مشروعية في زمانٍ جافٍ طغت عليه المادية في كل نواحي الحياة.

ولا زالت تلك النظرة القاتمة للتحضر كائنة في كثيرٍ من المنبطحين من أبناء مجتمعاتنا جاعلين الحضارة قاصرةً على هذا التقدم المادي الظاهري في أمور الدنيا مع غفلةٍ تامةٍ أو تغافل عن العنصر الروحي، وإن شئت قل: الأخلاقي، وإن أردت إيضاحاً أبلغ فقل: الديني حتى انقلبت المعايير وصار الخطاب في أهمية استحضار تلك العناصر الأخرى ضرباً من الهذيان في زمن الآلة!

إن عدداً من الباحثين كشبلنجر وتوينبي جعلوا من أمارات الموت الحضاري للأمم هو تفريغها من تلك القيم التي كانت محركةً لها وهي في مهدها، كما يحلو للبعض تسميته كلاسيكية سبلنغر أو شبلنجر[2]

لكننا رغم ذلك وجدنا الإنسان الغربي المتقدم يقصر مفهوم الحضارة عامداً على من يخدم توسعاته الاستعمارية، أو كما يقول جيرالد هيرد:

” أصبحنا نقصد بالمتحضرين الناس الصناعيين، والمجتمعات الممكننة.. هكذا نصفهم لأننا نؤمن أن العالم الطبيعي هو الواقع الوحيد… إلخ”[3]

لا شك أن للتقدم التقني دوراً كبيراً في ازدهار الحضارات، لكنه ليس الجوهر الأساس الذي تعتمد عليه، بل إن الجوهر الذي ينبغي أن تعتمد عليه الحضارات يكمن في ثقافتها وأفكارها التي تتوارثها بين أجيالها، حتى تأتي أجيالٌ متأخرة ترفض تلك الأفكار بالكلية منبهرين بأفكار حضارةٍ أخرى فحينئذٍ تنهار حضارتهم، ويضيع مجدهم، وما قصص التاريخ عنا ببعيد.

لكن إن كان لكل حضارةٍ جوهرٌ تقوم عليه، فبأي شيءٍ تكون حضارةٌ أكمل من حضارةٍ؟

إن كانت الثقافة لُبَّ الحضارة، فإنَّ الدينَّ لُبُّ الثقافة، فمن المعتقدات الدينية التي يدين بها أفراد الحضارة تتشكل قناعاتهم والتي تتحرك أفعالهم على إثرها، وبالتالي متى كان الدين صحيحاً وكان تطبيقه واقعاً أنتج حضارةً متماسكةً، وأثمر تقدماً إن انضاف إليه العنصر المادي بلغت الحضارة شأوها، وفي الأندلس نموذجٌ يُحتذى.

المحدد لهذا الأصل الحضاري هو الدين الصحيح المنزل من عند الله، فإنَّه متى كان للناس مرجعية يحتكمون لها خارجةٌ عن التصرفات والأهواء ملزمةً للجميع انصاعوا لها جميعاً فحددت لهم معايير الحضارة، ولو كانت كما أسلفتُ ربانية المصدر فإنَّها ستضع كل قيمة حقٍّ وخيرٍ وعدلٍ في موضعها، فتكون المحددات الكائنة من هذا النص المتسامي المعيار التقديري لما يصح أن يكون.

لكن قد يقال: إن النماذج التفسيرية للنص الواحد تدخل تحت طائلة التصرفات والأهواء، فمن أين العصام من الزلل في ذلك الباب؟

قيل: فها هنا تتبدى أهمية منهجية الاتباع والاقتداء بما كان عليه النبي والصحابة ومن تبعهم على طريقتهم، فهذا النموذج التفسيري هو النموذج الصحيح الذي ينبغي أن تسير الحضارة في ركابه، وحينئذٍ ينشَدُّ العِصام.

ومن هنا أيضاً يكون جواب السؤال المفترض أول المقال القائل: هل أي شيءٍ يقع في حضارةٍ ما يكون من عناصرها ومقوماتها التي ترتكز عليها؟

فإنَّ الشيء الحادث متى عُرض على المعتقدات المستكنة في الوعي الجمعي، وهو دين الإسلام في نموذج الحضارة الإسلامية، فأخذت تنقح فيه وتقبل وترد بينت ما يصح أن يُتكأ عليه، وما يطرح، فلا يُبالى به.

غير أن أسئلة الحضارة لم تنتهِ، كمعضلة ربط التقدم بالأفضلية، وربط القديم بالتخلف، ونحاول إزالة اللوثات الحداثية التي أصابت هذا الباب، ولهذا مقالات تبقت إن شاء الله.

 

الهوامش:

[1] بربري عصري متحضر، ملاحظات حول الحضارة، إبراهيم كالين، ص: 18

[2] انحطاط الحضارة الأمريكية، موريس بيرمان، ص: 27، ويقول شبلنجر: “إن المدنية هي المصير المحتوم للحضارة، إن المدنيات هي أضحل الأوضاع سطحيةً، وأبعدها عن الطبيعة أصالةً، إنها الموت يتبع الحياة، إنها الصلابة تعقب المرونة.. إلخ” انظر: تدهور الحضارة الغربية جـ1، ص 91

[3] من كتاب Man, the master ص: 25

رضا هارون

مدير تحرير مجلة ديمة، والمشرف على مركز ديمة البحثي التابع لجمعية الوابل الطيب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى